لن نتحدث هنا عن شخصية عادية عملت في صناعة السيارات فأسست شركة مُهمّة، فالحديث هنا عن هنري فورد أحد أهم من طوَّروا صناعة السيارات في العالم، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. بل حصل هنري فورد فعليًا على لقب “رائد أعمال السيارات في القرن” عن القرن العشرين طبعًا، فيما نالت سيارته الشهيرة “موديل تي” لقب “سيارة القرن”.
ولد هنري فورد عام 1863 في ولاية ميشيغان لأبٍ إيرلندي الأصل والمولد وأمٍ بلجيكية الأصل، وكان الأبن الأكبر لأبيه المزارع. وحُكمًا فقد ساعد في الزراعة مراعاة لرغبة أبيه بأن يعتني بالمزرعة ويكون مسؤولًا عنها، لكن بعد وفاة والدته وهو في الثالثة عشرة من عمره، لم يعد لـ هنري تعلق بالمزرعة. وكان أن قرر ترك المدرسة في الخامسة عشر من عمره والذهاب ليُصبح ميكانيكي متدرب في دترويت، فقد كان مهتمًا بالآلات!
من الزراعة إلى الصناعة
عمل هنري عام 1891 كمهندس في شركة إديسون للإضاءة، ونعم هي شركة ثوماس إديسون العالِم والمُخترع. وكان لـ هنري شغف بالمركبات -حديثة العهد آنذاك- وفي العام 1892، أي وهو في التاسعة والعشرين من العمر، تمكن من صنع مركبة بمحرك من أسطوانتين وعجلات من دراجات هوائية، وحسَّنها مرارًا إلى أن قدمها بعد أربع سنوات لـ ثوماس إديسون نفسه أملًا بالحصول على مستثمر.
بالرغم من دعم إديسون، لم يجد هنري الفرصة المناسبة حتى عام 1899، فاستقال من عمله وانتقل لشركة ديترويت للسيارات Detroit Automobile Company التي أسسها مستثمرون رأوا في نموذجه ما يُمكن الاستفادة منه. لكن هنري لم يتفق مع المستثمرين تمامًا، وبعد سنتين وإنتاج 20 مركبة استقال هنري وأغلقت الشركة مع خسارة 86 ألف دولار – أي ما قيمته نحو 2.9 مليون دولار الآن.

عمل هنري مع مستثمرين آخرين لتأسيس “شركة هنري فورد” عام 1901، ولكنه مرة أخرى لم يتفق معهم، فاستقال بعد عام ليُصبح اسم الشركة “كاديلاك” المعروفة الآن.
المحاولة الثالثة كانت ناجحة، حيث تأسست “فورد موتور كومباني” التي نعرفها اليوم عام 1903، بدعم من 12 مستثمر، منهم الأخوين دودج -أسسا لاحقًا شركة دودج. وأول سيارة أنتجت كانت موديل A لتليها موديلات B وC وF وK وN وR وS حتى عام 1908، لكن الحدث الأهم بلا شك هو تقديم فورد موديل T عام 1908 ومعها خطوط التجميع.

خطوط التجميع
تتمثل خطوط التجميع بإنشاء مسارات للتصنيع الهدف منها تجميع مكونات السيارة وهيكلها خطوة خطوة، بحيث يبقى العامل في مكانه ويقوم بعمل شيء واحد طوال الوقت، وبالتالي اختصار الوقت بشكل كبير جدًا. وتحولت طريقة التصنيع بالتجميع إلى حركة صناعية عامة خصوصًا مع استخدام الآلات.
مع خط التجميع، لم يكن هناك إمكانية لتخصيص المركبات، وكان لدى هنري مقولة شهيرة: ”يمكن لأي مشتر اقتناء السيارة باللون الذي يريده، طالما كان اللون أسود” . شاهد الفيديو الذي يعرضه الزميل أحمد الغندور “الدحيح” بأسلوبه المُمتع وتعرف على قصة فورد الكاملة.
طائرات فورد
كما حال شركات السيارات الأخرى، دخلت شركة فورد في مجال الطيران خلال الحرب العالمية الأولى، حيث صنعت محركات للطائرات. وبعد الحرب، عادت فورد إلى صناعة السيارات حتى عام 1925، عندما استحوذت على شركة Stout Metal Airplane.
كانت أكثر طائرات فورد نجاحًا هي Ford Trimotor ، وغالبًا ما يُطلق عليها اسم “Tin Goose” بسبب بنيتها المعدنية المموجة والتي استخدمت سبيكة جديدة تسمى Alclad تجمع بين مقاومة الصدأ للألمنيوم وقوة سبائك دورالومين المصنوعة بتقنية التقسية بالترسيب.
حلقت طائرة فورد هذه لأول مرة في 11 يونيو 1926، وكانت أول طائرة ركاب أمريكية ناجحة، حيث استوعبت حوالي 12 راكبًا. صُنِع من هذه الطائرة 199 وحدة قبل أن يتم إغلاق فورد للطائرات عام 1933 بسبب ضعف المبيعات خلال فترة الكساد الكبير.

فورد والحرب واليهود
اشتُهِر فورد بموقفه السِّلمي خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الأولى، ولاحقًا للترويج للمحتوى اللاسامي، بما في ذلك بروتوكولات حكماء صهيون، من خلال جريدة ديربورن إندبندنت، وكتاب اليهودي الدولي.
للتوضيح، فاللاسامية تُعبِّر عن معاداة اليهودية تحديدًا كمجموعة عرقية ودينية وإثنية، ذلك بالرغم من انتماء العرب والأشوريين والفينيقيين والآراميين للشعوب التي تتحدّث اللغات السامية. اخترعت هذا المُصطلح الحركة الصهيونية للتعبير عن معاداة اليهود. وكلمة “سامي” مأخوذة مما ورد في الإصحاح العاشر من سفر التكوين: أن أبناء نوح هم سام وحام ونافث.
إن الساميون هم نسل سام من العرب واليهود وغيرهم، ولكن الصهيونية تعمدت إطلاق السامي على اليهودي، تجنباً منها لاستعمال مصطلح معاداة اليهود؛ لما كان لفظ “اليهودي” من ظلال قبيحة في أذهان الشعوب الأوربية عبر التاريخ.
عودة للحرب، فقد عارض فورد الحرب العالمية الأولى، ودعم الأسباب التي تعارض التدخل العسكري، بل وانتقد بشدة أولئك الذين شعروا بتمويل الحرب، وموَّل سفينة سلام إلى أوروبا، حيث كانت الحرب العالمية الأولى مستعرة. ودائمًا ألقى فورد باللوم على “المصرفيين الألمان اليهود” في التحريض على الحرب.
برز فورد “كمتحدث محترم عن التطرف اليميني والتحيز الديني” عبر مقالات نشرها في صحيفة الإندبندنت، كما رفض دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية واستمر في الاعتقاد بأن الأعمال التجارية الدولية يمكن أن تولد الازدهار الذي من شأنه أن يمنع الحروب. لقد أصر فورد على أن الحرب كانت نتاجًا للممولين الجشعين الذين سعوا لتحقيق الربح من تدمير البشر.
في عام 1920م قامت جريدة ديربورن إندبندنت بنشر كتاب بعنوان “اليهودي العالمي – أكبر مشكلة في العالم”. ووضّح فورد أن الأممية اليهودية شكلت تهديدًا للقيم الأمريكية التقليدية، ونال بذلك تقدير ألمانيا النازية، بما فيها أدولف هتلر الذي قال أن فورد رجل عظيم والذي وبالرغم من سخط اليهود له، ما يزال يحتفظ باستقلال كامل عن المسيطرين في الولايات المتحدة. بل وقال هتلر إنه يعتبر فورد “مصدر إلهامه”، موضحًا سبب احتفاظه بصورة بالحجم الطبيعي لفورد بجوار مكتبه.
مع أن مقالات فورد تدين صراحة المذابح والعنف ضد اليهود، إلا أنها تلوم اليهود أنفسهم على استفزازهم.
فورد وعرب اليمن
وفقًا لكتاب العرب الأمريكيون في ميشيغان، يُقال بحاراً يمنيًا من عدن التقى بهنري فورد وعمل لديه، ثم لم يلبث فورد أن أرسل سفينة إلى اليمن لجلب العمال. لا دليل على هذه الرواية، ولكن الأكيد أن فورد وظف عددًا من اليمنيين في مصانعه. ففي النهاية كان فورد يبحث عن تقليل تكاليف التصنيع، وكانت الأجرة التي يتقاضاها اليمني قليلة، كما كان لليمنيين سمعة أنهم عمال جادون، وفي ذات الوقت يقول الكتاب أن فورد كان يبحث عن عمال لا يعرفون شيئا عن العمل النقابي، فعماله الأميركيون كانوا يكثرون الإضرابات والإعتصامات، فأراد فورد أن يستقدم عمالة بحواجز لغوية وثقافية تمنعهم من الإنضمام للنقابات العمالية.
هذا وتوفي هنري فورد في 7 أبريل 1947 في ديربورن.