نُبحِرُ من وقتٍ لآخر بين مواقعِ التصميم والمعاهد والجامعات بحثًا عن تجارب عربية في تصميم السيارات ونحن مُتأكّدون أننا سنجد مرفأ نستريح إليه ونتأمّلُ جماله، واليوم نتوقف عند المُصمم السوري الفذ السيد عدنان المالح رئيس التصميم في شركة تورينو ديزاين Torino Design في إيطاليا، حيث كان لنا معه لقاء أعاد بنا ذكريات دمشق الحبيبة مع سياراتها التي كانت في مُعظمها -حتى أواخر التسعينيات- كلاسيكية النكهة، فحملت العديد من تفاصيل التصميم المُغرية.
كانت التسعينيات في دمشق مكانًا يطيب به تذوق الجمال بشكل عام؛ جمال المنازل والطبيعة والشوارع المُفيَّأة بأشجارٍ كبيرة، يدنوها في عديد من المرّات جِرار ماء مع كوب معدني – صدقة عن روح القدامى، وجمال الناس والملابس واللهجة الناعمة واللغة اللطيفة، وجمال الأعمال اليدوية المُتقنة التي ضُرِبَ بها المثل، كما كانت مكانًا يطيب به تذوق الأطعمة وتذوق الأدب أيضًا… ومن المُؤكد أن كُلّ ما سبق خلق مُجتمعًا قادرًا على فهم وتقييم الجمال وتكوينه من جديد.

البداية
نشأ عدنان المالح في هذه الفترة الذهبية، فوُلِدَ في دمشق عام 1987، وأمضى طفولته باللعب والحديث عن السيارات مع والده؛ طفلٌ بعمر بضعة سنوات يصحبه والده لعيادته، فيجوبون شوارع “الفيحاء” أو “مدينة الياسمين” ويتحدّثون دائمًا عن السيارات، فحتى والد عدنان كان يُحب السيارات وخصوصًا الأمريكية.
كان والد عدنان يُظهِر الفروق بين طرازات السيارات والعلامات ومصدرها؛ السيارة التي لها فتحتان للتهوية من الأمام هي بي أم دبليو، أما تلك التي تحمل شعار النجمة الثلاثية فهي مرسيدس … وتدريجيًا بدأ عدنان يُبدي شغفًا أكثر بالتفاصيل كالشعارات والأسماء وشكل الزجاج الجانبي والمصابيح وعددها واختلاف ألوانها، بل اهتم ورأى تمايزًا في تصميم عمود السقف الخلفي c-pillar، والأخير يُنبّئ باهتمام عميق.
بدأ يظهر لعدنان فروقات أخرى لم يكن ليكتشف سرها بسهولة، فبعض السيارات متشابهة بعدد المصابيح وشكل الزجاج الجانبي والأشكال الهندسية العامة، لكن بعضها جميل وممتع وله هيبة وحضور، والآخر لا يلفت الانتباه إطلاقًا… أثار ذلك فضول عدنان لمعرفة مفاتيح الجمال… لكن كيف؟
لم يكن هُناك إلمام كافٍ في مُحيط عدنان لإشباع فضوله و تساؤلاته، فكثير من الفوارق الجمالية كانت تُفسَّر بخبرة وتمرس المهندسين في صناعة السيارات، ولم تُعزى لأشخاص مهنتهم تصميم السيارات.
أنفق الطفل مصروفه على المجلات العربية للسيارات – كما حال مُعظمنا، ولكن لم يكن هناك إشارات عن هذه المهنة. ثم كان أن بدأت شقيقته الكبرى دراسة الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وكانت تحدثه عن يومياتها وما تكتسبه من معرفة عن الفن والرسم والتصميم الصناعي والاتصال البصري (التصميم الغرافيكي)، كانت هذه المواضيع مشوقة جدًا فبدأ بتعلم برامج التصميم الثلاثي والفوتوشوب واستمر برسم السيارات على كتبه المدرسية وحتى على مقاعد الدراسة.
وجدتُّها!
مع وصول الانترنت لسوريا سنة 2001 تقريبًا، اكتشف عدنان الجواب الذي لطالما بحث عنه؛ هناك من يرسم ويصمم وينحت السيارات… إنه الفردوس للشاب المُراهق! لكن ما الطريق للوصول إليه؟ إن دراسة بكالوريوس تصميم السيارات أو المركبات في سوريا غير متوفر، أما الدراسة في أوروبا أو أمريكا فمُكلف جدًا! لا بد من وجود حلول، فعالم التصميم عالم متقاطع يجمع بين الفن والعلم وجواب يلبي إحتياجات الانسان. يقول عدنان أنه وجد مفتاح الحل وتمثّل ذلك بالهندسة المعمارية.
عدنان المالح: يُقال أن العمارة هي أم الفنون، لكني أقول أنها أم التصميم! فهي تجمع العلم والفن والتشكيل.
بما سبق، دخل الشاب جامعة دمشق ودرس في كلية الهندسة المعمارية، ويقول: “كانت دراستها شاقة و ممتعة! تعرفت بها على أسس الجمال و التحكم بها، والكتل والنسب والألوان والملمس. كنت متفوقًا في دراستي و حصلت على امتيازات تفوق. و لكن كل زملائي و أساتذتي كان يعلمون أن لدي علاقة سرية مع السيارات التي كانت تظهر ملامحها في مشاريعي الدراسة. فهناك دائما سيارة في مكان ما! وإن خَلَت من السيارات فأشكال المباني تمتّعت بديناميكية بعيدة عن الأشكال الساكنة”.
عمل عدنان أثناء مرحلة الدراسة وبعدها كمهندس معماري ومصمم داخلي ريثما يحصل على قبول للماجستير الذي وضعه كحلمٍ منذ زمن. و من الشركات التي تدرب وعمل بها هي الشركة السورية الفرنسية للهندسة AEM، وقام أيضا بالتدريس في جامعة دمشق كأستاذ للتصميم المعماري.
رحلة البحث عن الماجستير المُناسب
عاود الرجل حلم تصميم السيارات دائمًا ليدفعه البحث عن برامج ماجستير متخصصة، فما كان إلا أن اتجه -حسب وصفه- لرأس النبع؛ إيطاليا، منبع الفن والجمال ومقر بيوت التصميم مثل بيرتوني Bertone وبينينفارينا Pininfarina وجيوجيارو Giugiaro، ومقر شركات عريقة متميّزة في عالم السباقات مثل ألفا روميو ومازيراتي وفيراري.
قرّر مُهندسنا دراسة الماجستير في جامعة بوليتكنيكو في ميلانو، فهو برنامج مكثف لسنة ونصف بتكلفة مقبولة. وكان -كما قال- أمام رهان مع القدر، وبدعم مادي ومعنوي من أسرته وتوفيق من الله استطاع إنهاء الماجستير بامتياز، ذلك رغم صعوبات اللغة الإيطالية و قصر مدة البرنامج. أما مشروع التخرج فتم في العام 2013 بالاشتراك مع بورشه، حيث تم تقديم دراسة لسيارة كهربائية لا يتجاوز طولها 3.6 أمتار.
أثناء الدراسة عمل السوري المُغترب في استوديو تصميم صناعي في ميلانو مستخدمًا قدرته على التصميم ثُلاثي الأبعاد Poly Modeling لكسب بعض المال وعمل بعض المشاريع على برنامج الفوتوشوب. بعدها، انتقل إلى مدينة تورينو عاصمة السيارات في أوروبا. وفي العام 2014 بدأ العمل في شركة تصميم السيارات تورينو ديزاين Torino Design لمؤسسها روبرتو بياتتي Roberto Piatti، و تدرج بالوظيفة من مصمم مبتدئ حتى أصبح رئيس مصممين تحت توجيهات جوليانو بياسيو Giuliano Biasio.
يتحدّث المُصمم عن عمله فيقول إن العمل في دور تصميم السيارات المستقلة كـ تورينو ديزاين له خصوصية ويحتاج لمهارات متنوعة ويتطلب ديناميكية بالتفكير والإبداع، ذلك بسبب تنوع المشاريع المتعلقة بالنقل، فهم يُصممون السيارات بجميع فئاتها وأنظمة الدفع بالإضافة للشاحنات الجبلية وشاحنات المسافات الطويلة والباصات وحتى السيارات الطائرة والدراجات الكهربائية، وذلك لحساب شركات كبرى رائدة وجديدة ومن مختلف أنحاء العالم.

يُعطي ما سبق خبرات متنوعة عن المتطلبات التقنية والراحة والاستعمال لكل نوع من المشاريع، وكيفية تطبيق النظرة المستقبلية للرسومات تبعا للتقنيات المتاحة، والأهم هو احترام القيم التصميمية لكل علامة. في كثير من الأحيان تكمن مهمة فريق العمل في خلق قيم التصميم لشركة جديدة فيما يُعرف بـ هوية التصميم Design DNA أو Brand Identity.
توضيح ونصيحة
تتميّز مهنة تصميم السيارات – وفقًا لـ عدنان- بطابع خاص؛ فهي مهنة حرفية تحتاج للكثير من الدراية بأمور متعددة تقنية وثقافية وفنية، والأهم من ذلك هو القدرة على الإبداع واستشراف المستقبل، لكل خط وسطح شخصيته و دلالاته، وهذا أمر لا يتّضح مُباشرة للشخص العادي لكن له تأثير كبير باللاوعي. من الصعب دراسة تصميم السيارات في فترة قصيرة، فهو يحتاج لجهود كبيرة ومهارة بالرسم وتخيل الحجم بالفراغ والإبداع… لكن المهنة ممتعة جدًا.
نحن طموحون كشباب عربي ولدينا إمكانيات كبيرة وقدرة على التركيز على الأهداف والالتفاف حول الصعوبات التي نواجهها في بلادنا. إن الدراسة في الخارج امتحانٌ قاسٍ ورهان مع القدر وسوق العمل. لكن النجاح فيه ممكن وأمثلته كثيرة و نتائجه ممتعة.
علينا أن نحلم، أن نحلم بعمق و قناعة، فالحلم يجذب القدر. علينا دائمًا العمل والكد لتحقيق الأمنيات لا أن نتسوق أحلامنا من الجامعات. أصبحت المعلومات متوفرة في أيامنا هذه بشكل رائع وسريع، ويمكن التواصل مع الأشخاص المهمين عبر وسائل التواصل المُختلفة. لكن مع ذلك فإن الفرص محدودة، وهناك الكثير من المنافسة. دورنا هو أن نكون صادقين مع أنفسنا، وواثقين بأنفسنا وقادرين على تطوير إمكانياتنا.
بعض أعمال المُصمم عدنان المالح
أدناه بعض أعمال المُصمم السوري عدنان المالح، ويُشار أنها مجموعة بسيطة وافق المُصمم على عرضها، فمعظم الأعمال الأخرى خاصة بشركات ولا يصح نشرها.
إليتريكا 33 Elettrica؛ تصور مستقبلي لأسطورة ألفا روميو 33 سترادالي للعام 1967 ولكن بمحرك كهربائي.
أجمل سيارة تاريخية لألفا روميو حسب عدنان المالح، صمم الأصل فرانكو سكاليوني وصُنعت يدويًا مع تعداد 18 نسخة كل واحدة منها مُختلفة عن الأخرى.
بالنظر للطراز الأصل نرى الكثير من المساحات الزجاجية على السقف و الشباك الخلفي، كما تتمتع السيارة بجسم رشيق لكنه ممتلئ في ذات الوقت، مقدمتها بسيطة ولكنها مميزة، ومصابيحها الثلاثة المدمجة ضمن قاعدة سوداء اللون تعطي انطباعًا بالقوة واللطافة معًا.
أما درع ألفا روميو فصغير جدا و مثبت بمكان منخفض يصعب رؤيته على الواقع، وهذا أمر مثير للاهتمام؛ فهذه السيارة تقول “أنا واثقة من نفسي ولا أحتاج لإظهار من أنا، فأنا مشهورة دون أن أدعي ذلك”.
من هذه السمات العامة بدأ عدنان إعادة تصور السيارة بخلق كتلة سوداء لامعة تحتوي على المعدات التقنية من بطارية و محركات … بالإضافة لمقصورة القيادة ذات السقف البانورامي. محاطة بألواح الجسم الحمراء من الجانبين، لتُضفي روح السيارة القديمة بتدوير أسطحها ورشاقتها. أعتمدت عدنان بالمقدمة على تقنية المصابيح العاملة بالليزر بشكل مستطيلات صغيرة غُرٍسَت في فتحات واسعة تُذكِّر بقاعدة المصابيح السوداء للسيارة الأسطورية. أما بالنسبة لدرع ألفا روميو فقد دُمِجَ بعاكس الهواء السفلي.
هوية مازيراتي الكهربائية Maserati Electric Identity؛ تصور شخصي لمستقبل سيارات مازيراتي الكهربائية مع الحفاظ على بعض سماتها التاريخية وإضافة معايير جديدة ومستقبلية تضمن استمرار تطور هوية مازيراتي دون ضياع إرثها المثير.
قام المصمم برسم التصور على سيارة كوبيه بأربعة أبواب وأخرى خدماتية رياضية، وجاءت المصابيح الأساسية مدمجة ضمن فتحات التهوية الجانبية للمصد فيما أتت المصابيح العلوية للأضواء النهارية فقط. أما شكل عاكس الهواء السفلي للمقدمة فهو مستوحى من شعار الشركة.
ألفا روميو إي سبيرنت Alfa Romeo E-Sprint؛ إعادة تصور مستقبلية لسيارة ألفا روميو جوليا سبرينت للعام 1963 وبمحرك كهربائي.
اقرأ أيضًا: